كرسي أبي

كرسي أبي

لقد أدركت أن لكل شيء إحساس وقيمة حتى ولو كان جماد. وأننا نتعلق بممتلكاتنا وكأنها جزء من كياننا وامتداد للروح والجسد.

المرسم

التحقت في السنوات الماضية بدورة فنون جميلة، وخلال حصة الرسم بالألوان الزيتية، طلب الأستاذ منا أن نرسم اسكتش مناسب للحصة القادمة، على أن يكون من اختيارنا وبنات أفكارنا؛ لنطبق عليه التقنيات الجديدة. تواردت إلى ذهني عدة أفكار دونتها في دفتري الصغير، لكن لم ترق لي أي واحدة منها. ركبت سيارة السرفيس وعدت إلى منزلي وأنا مستمرة في إبداع اسكتش مناسب، لكن لم يَرق لي أي شيء.

كرسيان ... وورد بلدي

كان أبي يجلس دائمًا على كرسي أبيض عند مدخل حديقة منزلنا، برفقة جهاز التنفس الصناعي. تحيط به الورود البلدية الجورية الحمراء والصفراء من كل جانب. صورة محفورة في ذاكرة حديقتنا وكأنها جزء لا يتجزأ من المشهد الطبيعي.

 أبي الحبيب وابتسامته العذبة ودعاؤه الطيب أول ما كان يستقبلني عند عودتي من الخارج.

في ذلك اليوم، لم يكن أبي يجلس على كرسيه. اصطدم بصري بالفراغ الأبيض، استشعرت معنى الكرسي عندما أمسى خاليًا. دخلت المنزل فزعة أبحث عنه في كل مكان.

وجدته بصحبة طبيبه يجلسان في الصالة الداخلية في حجرة الضيوف. من بعيد رمقته بهدوء، ولاحظت أنه يجلس على مقعد زُين قماشه بالورود الملونة.

أدركت أن أبي لا يتحرك إلا برفقة الورود، تصنع حوله هالة من الراحة والطمأنينة.

ابتسمت، ومضيت إلى حجرتي بسرعة. أخرجت دفتر الرسم وقلم الفحم، وبدأت بتخطيط شكل كرسيه على الورقة البيضاء.

في ذلك اليوم أدركت قيمة الشعور بالأمان والحب والسلام في حضرة أبي وهو يجلس على كرسيه في الحديقة، وأني طوال الفترة الماضية لم أكن واعية لهذا الشعور إلا عندما تأملت كرسيه بعمق ولمسني إحساس الفقد من الداخل.

أدركت أن لكل شيء إحساس وقيمة حتى ولو كان جماد. وأننا نتعلق بممتلكاتنا وكأنها جزء من كياننا وامتداد للروح والجسد.

تفاصيل

في حصة الرسم بدأت برسم الخطوط الرئيسية لكرسي أبي. أضفت كتابه ونظارته الطبية والكثير الكثير من ورود حديقتنا.

في غمرة جنوح خيالي وأنا أمام اللوحة، رسمت رائحة الورد، وهل يمكن رسم عطر الورد؟

نعم، عطر الورد مرادفه خطوط انسيابية على المدى … ألوان فاتحة زاهية … تداخل بصري ممتع … تفاصيل صغيرة تشي بالحب والاهتمام، وأصبحت رائحة الورد على شكل لوحة.

ذراعا الكرسي كانتا ذراعا أبي، أما نظارته ففيها انعكاس لون عيونه العسلية. رسمت ظهر كرسيه بشكل طولي إلى الأعلى لأنه سندي، أما ظل الكرسي كان ورود وورود وأزهار كثيرة فلا ظل لكرسي أبي سوى الأزهار وعطورها وعبيرها.

نقطة خلاف

نقطة الخلاف مع أستاذ الرسم كانت طريقة رسم منظور الكرسي. طلب مني رسم مكعب ثم رسم أبعاد الكرسي بداخله.

أردت رسم كرسي لكن بإحساسي أنا وما يمثله لي من حب وأمان يفيض بالمشاعر التي تستقبلك وتخفف عنك كل المتاعب والصعاب.

والأستاذ يريد أن أرسم كرسيًا واقعياً حسب قواعد الرسم الكلاسيكية. وأنا أريد رسم كرسي بأسلوب انطباعي وتعبيري. أريد أن أرسم كرسي أبي الذي لا يشبهه أحد.

في كل مرة أعود بها إلى البيت أحمل اللوحة معي، اقلبها بحذر حتى لا يراها أبي فقد كنت احضرها كهدية له. حاول أبي اختلاس النظر إليها، ولكنه لم يسألني عنها إلا في ذلك اليوم الكئيب بعد عودتي من حصة الرسم.

وقع نقاش حاد بيني وبين أستاذ الرسم على الطريقة التي أرسم بها ورفض اللوحة. حاولت إقناعه بطريقتي في الرسم ولكنه أصر على رأيه. في لحظة عناد بيننا حدث ما لم اتوقعه أبدًا من نفسي.

في لحظة واحدة طائشة مسكت أنبوب اللون الأبيض، وبضربات سريعة طمست اللوحة بشكل كامل واختفى الكرسي وتتطايرت الورود من اللوحة إلى الفضاء بلا عودة. عدت إلى البيت نادمة. أجر روحي وخيبتي وأحمل لوحة ثقيلة حزينة.

لماذا في ذلك اليوم يا الله، يسألني أبي عن اللوحة التي طمستها بضربة واحدة؟

توقفت. أدرت اللوحة أمامه ورفعتها إلى الأعلى لأغطي وجهي ودموعي المنهمرة كشلال. ركضت نحو غرفتي وسؤال أبي يحيرني في إجابته. ماذا رسمتي على اللوحة البيضاء؟

اخرجت من حقيبتي اسكتش الفحم الذي خططته أول مرة. تأملته وعاهدت نفسي برسمه مرة أخرى لوحدي بعيدًا عن هلوسات الأستاذ عديم المشاعر. كانت قواعده في الرسم هي الجماد والحياة كل الحياة في كرسي أبي.

لم يدرك الأستاذ أن الرسم ليس فقط قواعد وخطوط ونسب ثابتة. الرسم إحساس ومشاعر. حوار وجداني يدور بين الفنان واللوحة، تتكلم معه وتُلهم حواسه.

شوق .. وورد ... وحمام بري

تمر الأيام وتتطور الحالة الصحية لوالدي، وينتقل إلى الرفيق الأعلى قبل أن يرى لوحة الكرسي التي رسمتها له.

وأمسيت في غيابه ازرع الشوق وردًا بين مسافات الكرسيين الوحيدين، كرسيه الأبيض في مكانه بين الورد البلدي في حديقة منزلنا، تتناوب بالجلوس عليه حمائم برية بُنية اللون، يرسلها أبي من عالمه الآخر حتى ابتسم ولا أحزن. وفي صالة الضيوف كرسيه بنقوش الورد، أقف أمامه وأتخيل حضوره الخفي.